دخلت إلى شقتها في المدينة بعد غياب دام لعدة أسابيع!! إنها بحاجة للكثير من العمل والتنظيف بعد كل هذا الهجر, ولكن ليس اليوم فأنا متعبة, بل مرهقة... صنعت لنفسها عشاءً خفيفاً واستلقت على سريرها حيث أطلقت العنان لدموعها التي لم تعرف لها سبباً!! فقط ترغب بالبكاء... كم أكرهه.. أكرهه.. بل أحبه بكل جوارحي
لا تعرف كم استغرقت من الوقت حتى استطاعت النوم.. غطت في نوم عميق .. عاد الحلم الشهير يطاردها.. ولكنه اقترب أكثر فأكثر!! حاولت الهرب, ولكن إلى أين؟؟ لم يكن يريد أن يؤذيها بل توقف ونزل عن حصانه واقترب أكثر.. بدأ الضباب ينقشع!! مازالت ملامحه مبهمة.. ولكن تلك الشامة على رقبته أين رأيتها؟ لاااا إنه هو.. لا يمكن!! تلك المغارة المسحورة ثانية؟!! لم تر الحزن هذه المرة رأت شيئاً مختلفاً!! شيء جعل أوصالها ترتعد.. كانت نظرته أكثر حناناً
صحت من النوم ترتجف ولكن ليس من الخوف .. إنها الحمى رأسها كقطعة من الجمر.. نهضت متهالكة شربت كوباً من القهوة الساخنة وجلست وحيدة يملؤها حزن لم تألفه من قبل.
رن جرس الباب جاهدت كثيراً حتى استطاعت الوقوف.. وصلت بصعوبة فتحت الباب ولكنها غابت عن الوعي قبل أن ترى من بالباب!! لقد شعرت بموجة من جهنم تلتف حولها وتذهب بها إلى جحيم من الكوابيس المزعجة.. أصوات كثيرة.. تمتمات.. سمعت صوت عمتها تقول "ما كان علي أن أدعها تأتي وحدها" .. سراديب وأنفاق لانهاية لها قطعتها لا تدري وجهتها ... أصوات مبهمة .. ثم هدوء وسكينة .
أخيراً
فتحت عينيها .. أين أنا؟؟ كيف وصلت إلى السرير؟؟ ولكن كيف؟؟ متى جئتِ عمتي؟؟
- الحمد لله على سلامتك صغيرتي لقد خفنا عليكِ كثيراً لقد أخطأت عندما تركتك تغادرين وحدك
- خفتم علي؟؟ من تقصدين؟؟
- آه نسيت أن أخبرك بأن يارا أتت تسأل عنكِ وحزنت كثيراً عندما علمت أنك غادرتِ ولكن والدها عرض عليها أن تزورك فأتينا كلنا
- كلكم؟ هل تقصدين....؟
- نعم.. حبيبتي لقد طلبك مني والد يارا للزواج فهل تقبلين؟
- ما هذا الكلام عمتي؟ انه رجل فظ غليظ المعشر ولا أرغب بالزواج من رجل فقط لأن ابنته ترغب بذلك
- ولكن...
- لا .. قلت لا .. ولا مجال للنقاش.. سامحيني عمتي
سكتت العمة مكرهة أمام إصرار سوزان .. في هذه الأثناء سمعت طرقاً على باب الغرفة, أطلت يارا بابتسامتها البريئة المحببة
- هل يمكنني الدخول؟
- طبعاً حبيبتي ادخلي.. شكراً لكِ أنا مدينة لك بالكثير فلولاك ما كنت أعلم ماذا سيحصل لي
- أنا سعيدة جداً .. والدي وافق على الزواج بك.. هل رأيتِ؟ قلت لك
لم تعرف كيف سترد على الصغيرة فهي لم ترغب بانتزاع الفرحة من قلبها.. ولكن ماذا بشأن قلبها هي؟؟ هي تريده بشدة ولكن ليس هكذا.. ليس كدمية رغبت بها يارا فقرر الحصول عليها
- هناك ضيف يرغب بالاطمئنان عليكِ.. إنه أبي يطلب الإذن بالدخول
- ماذا؟؟ ولكن!!!.. لا... أقصد... لا بأس فليتفضل
قررت مواجهة الأمر وإبلاغه رفضها وليكن ما يكون!!
عادت يارا تسحب والدها من يده ليدخل الغرفة وهي تكاد تطير من الفرح.. شدت سوزان الغطاء على جسدها الممدد على الفراش بعصبية ظاهرة كأن هناك من سينقض عليها!!
- الحمد لله على سلامتك.. لقد قلقنا عليكِ كثيراً ما كان يجب أن تبقي وحدك فرِجلك لم تتعافَ بعد بشكل نهائي, ولابد أن بها التهاب ما أدى إلى تلك المضاعفات
- أنا بخير الآن شكراً لاهتمامك ما كان يجب عليك أن تتعب نفسك بالمجيء إلى هنا
- سوزان.. هل تقبلين الزواج بي؟؟
- ماذا؟! أنا آسفة لقد فاجأني طلبك كثيراً, ولكنني مرتبطة بصديق واتفقنا على الزواج وأنا.. أحــ .. أحبه!!
قالت آخر كلمة بارتباك واضح وهي تطأطئ رأسها لكي لا تظهر ما يختلج في نفسها من مشاعر حزن وخيبة كبيرين
- أنا آسف.. اعتقدت أن... لاشيء .. آسف حقاً
استغربت ردة فعله والخيبة الظاهرة على وجهه والحزن الذي ملأه فجأة, كأنه كان يبني آملاً كبيرة على موافقتها!!
تمنى لها الشفاء العاجل وحياةً سعيدةً مع الشخص الذي اختاره قلبها وغادر الغرفة
أما هي فوضعت رأسها بين يديها وأجهشت بالبكاء, أحست أن العالم ينهار من حولها .. لابد أنه هو الآخر سيتزوج من قريبته تلك.. إنها أنثى بكل معنى الكلمة حسب وصف عمتها وتملك من الصفات ما يجعل أي رجل يتمنى قربها, بينما هي لم يرَ منها إلا الغباء والوقوع في المشاكل ولم تلفت نظره لولا أن يارا طلبت منه أن يتزوجها!
عاودتها الحمى تلك الليلة وعادت ترى أحلاماً مزعجة وأشخاصاً كثر وأصوات متداخلة وضحكات ... عاد فارسها على حصانه!! إنه هو مرة أخرى ولكن عروسه إلى جانبه!! لكن الفارس كان ينظر في عينيها وكأنه يدعوها للهرب معه بعيداً عن هؤلاء ... صرخت .. نهضت فوجدت نفسها تجلس وسط السرير وهي ترتجف وتتصبب عرقاً
رن جرس الهاتف.. كانت عمتها على التلفون
- مرحباً صغيرتي كيف حالك؟ لا تنسي لقد وعدتني بمغادرة بيتك والعيش معي وأنا لازلت أنتظرك.. لا تتركي عمتك العجوز وحدها.. منذ وفاة والديك لم أرك وأنا مشتاقة إليك كثيراً, هيا اجمعي أغراضك وتعالي بشكل نهائي لن أدعك تعيشين وحدك فأنا أقلق عيكِ كثيراً... ما بالك صامتة؟؟ سوزان, هل أنت بخير؟
- نعم عمتي أنا بخير اطمئني.. طبعاً سآتي في أقرب وقت ربما غداً أو بعد غد.. مازال أمامي بعض الترتيبات البسيطة فقط
- حسناً أنا بانتظارك.. سترين أن الحياة هنا أفضل رغم بساطتها.. سترين
أغلقت سماعة الهاتف وعلامات الاندهاش على وجهها ونظرتها غير محددة!!
لقد كنت أحلم!! لابد أن الحمى جعلتني أتصور أشياء وأشياء كأنها الواقع.. الحمد لله لقد كاد قلبي ينفطر من شدة الحزن على فقدان ذلك الفارس الوسيم
أنهت كل الترتيبات .. باعت بيتها, جمعت أغراضها وودعت تلك الجدران الحزينة وغادرت, لتستقر عند عمتها بشكل نهائي.. استقلت القطار .. جلست تفكر.. بكل ما مرت به وبذلك الفارس الذي كان زائراً شبه يومي لأحلامها وأحلام أحلامها!!
استقبلتها عمتها بوجهها العجوز الطيب المبتسم .. ودعتها للجلوس وأخذ قسط من الراحة, ولكنها فضلت أخذ حمام سريع وتغيير ملابسها قبل تناول الغداء
نزلت بعد أن أنهت ترتيب ثيابها في الخزانة.. سمعت أصواتاً في البهو!!
لابد أن لدى عمتي ضيوفاً... سأرى من..
- تعالي يا صغيرتي سأعرفك على جارنا وابنته الجميلة أعتقد بأنكما ستصبحان صديقتين
كادت تقع أرضاً من هول المفاجأة!! هل يعقل أن يتحول الحلم إلى حقيقة؟!!
لاحظ فارسها ما أصابها فنهض وصافحها مرحِّباً بها, ولكن نظرته وابتسامته كانت نفسها لم تتغير.. ودقات قلبها وارتجافها عندما تنظر في تلك المغارتين السوداوين لم تتغير بل إنها ازدادت
جلست وهي تسأل نفسها.. "كيف أعرف الآن إن كنت أحلم أم لا؟"!!
تمت...